ينبش الإعلامي محمد بن ددوش في ذاكرته الإذاعية قبل 60 سنة، ويسجل في كتابه «رحلة حياتي مع الميكروفون» مجموعة من الذكريات والمشاهدات
التي استخلصها من عمله في مجال الإعلام السمعي البصري، وهي ذكريات موزعة على عدد من الفصول تبدأ بأجواء عودة الملك الراحل محمد الخامس من المنفى، وانطلاقة بناء الدولة المستقلة بعد التحرر من الاحتلال الفرنسي والإسباني، مبرزا موقع الإذاعة المغربية في خضم التيارات السياسية التي عرفتها الساحة المغربية في بداية عهد الاستقلال ومع توالي الحكومات الأولى وتعاقب المديرين الأوائل على المؤسسات الإعلامية. ويرصد الكتاب مكانة وعلاقة الملك الراحل الحسن الثاني بعالم الصحافة ومكانة الإذاعة والتلفزة في حياته، مع الانطباعات التي سجلها المؤلف خلال مواظبته على تغطية الأحداث الهامة التي عاشتها المملكة، وفي مقدمتها حدث المسيرة الخضراء وهيمنة الداخلية على الإذاعة والتلفزة، وضمن الكتاب وقائع تاريخية تنشر لأول مرة حول احتلال الإذاعة خلال محاولة الانقلاب التي كان قصر الصخيرات مسرحا لها في سنة 1971.
جاء رئيس الحكومة الإسرائيلية إلى المغرب بعد الاتفاق مسبقا على إطار المحادثات التي سيجريها مع العاهل المغربي، الذي كان، إذ ذاك، يتحمل مسؤولية رئاسة مؤتمر القمة العربي (المنعقد في غشت 1985) وأمامه المخطط العربي الخاص بالقضية الفلسطينية، والذي اتفق حوله القادة العرب في قمة فاس الثانية 1982، والذي عرف بمخطط الأمير فهد.
واعتقد الحسن الثاني، كما شرح ذلك بنفسه، أن له الصلاحية دون أن يكون مفوضا من أحد لمناقشة الموضوع مع بيريز، ولذلك اشترط مسبقا أن يكون اللقاء على قاعدة المشروعية العربية المتمثلة في مخطط فاس، وهذا المخطط في نظره «مخطط محبوك ومضبوط وقابل للتنفيذ. إذ لأول مرة أجمع كل العرب على خطة تمكننا من الشروع في تطبيقها في الشهور التي تلت ذلك المؤتمر».
وفي 22 يوليوز 1986، قدم الحسن الثاني شروحا ضافية حول اللقاء وأسبابه وأهدافه وظروفه في خطاب من مدينة إفران نفسها عن طريق الإذاعة والتلفزة، وكان الملك يخاطب الرأي العام المغربي ومن ورائه الرأي العام العربي والدولي، خاصة وأنه خصص حصة مهمة في الخطاب للوضع العربي وتطور القضية الفلسطينية وسياسة إسرائيل العدوانية، وأشار إلى أهمية اللجنة السباعية التي انبثقت عن القمة العربية بفاس والتحرك الذي قامت به برئاسته «لإقناع الدول العظمى بصلاحية مخطط فاس وبالإمكانيات التي يفتحها أمام التحليلات السياسية التي ترمي إلى إيجاد نهاية للمأساة العربية الإسرائيلية».
ولابد هنا من توضيح أن مخطط فاس أقر ضمنيا الاعتراف بإسرائيل وأن ليبيا أعلنت تحفظها وعدم اعترافها بالمخطط.
أكد الحسن الثاني، مرة أخرى، أن اللقاء لم يكن من أجل التفاوض، بل كان لقاء للاستطلاع، وهذا ما قاله في رسالة بعث بها إلى قادة الدول العربية يوم 28 يوليوز 1986، وشرح فيها «أنها محادثات استطلاعية محضة تم خلالها شرح مخطط فاس، واقتصر دورنا على ذلك، حيث بسطنا عناصره واحدا واحدا» وظل ملك المغرب يردد بعد ذلك، كلما أتيحت له فرصة الحديث عن لقائه بشمعون بيريز، بأن اللقاء كان بريئا «إذ ليس عنده ما يعطي وليس عندي ما أعطيه» وكان لابد من وضع إسرائيل أمام مسؤولياتها.
تأثر الحسن الثاني كثيرا للتعليقات والتصريحات والكتابات الصحفية التي صدرت في العالم العربي، وقد بلغ بعضها حد تشبيه لقاء إيفران بزيارة الرئيس أنور السادات لإسرائيل ولقائه بمناحين بيغين، وبلغ هذا التأثر مداه وهو يقول في مؤتمر صحافي: «مرارة في القلب وفي الفم لما سمعته وقرأته».
وأمام هذا الوضع، لم ير بدا (على مضض وألم) من التخلي عن رئاسة القمة العربية، وقد بعث بذلك يوم 26 يوليوز 1986 رسالة إلى الأمين العام لجامعة الدول العربية يشرح الدافع من وراء هذا القرار وهو «تسهيل عقد أي مؤتمر قمة كان في أي مكان كان وبرئاسة أي كان».
لم يكن هذا القرار بالقرار السهل على الحسن الثاني، وهو الذي كان يبدي دائما اعتزازه بدوره في عقد القمم العربية والإسلامية فوق الأرض المغربية التي احتضنت أكبر عدد من هذه المؤتمرات، واتخذت فيها أهم القرارات التاريخية بالنسبة للقضية الفلسطينية، ليس أقلها الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.
كل هذه الأحداث تجري مسرعة والاتحاد العربي الإفريقي بمعزل لم تمسسه، بعد، شظايا لقاء إيفران، بل الظاهر أن الاتحاد سيجتاز هذه الظروف المضطربة بسلام، خاصة عندما نسمع الحسن الثاني يقول يوم 7 غشت 1986، أي بعد مرور 17 يوما على لقائه برئيس الحكومة الإسرائيلية: «إن الاتحاد العربي الإفريقي مازال قائما وعما قريب ستجتمع هيأته الوزارية أو المختصة».
ماذا وقع، إذن، حتى وقعت الواقعة: انسحاب المغرب من الاتحاد وإلغاؤه نهائيا.
إن البيان السوري الليبي الصادر يوم 27 غشت 1986 عقب زيارة الرئيس حافظ الأسد إلى ليبيا هو العنصر الأساسي الذي قلب الموازين وحكم على الاتحاد العربي الإفريقي بالزوال.
لقد بادرت سوريا، غداة لقاء إيفران، بقطع علاقاتها الدبلوماسية والتجارية والثقافية والبشرية مع المغرب، حتى قبل لقاء الرئيس حافظ الأسد والعقيد القذافي في طرابلس، وبادر قائد ثورة الفاتح، من جهته، إلى رفض استقبال أي مبعوث من طرف ملك المغرب ليشرح له ما وقع في إيفران، ثم جاءت زيارة الرئيس السوري إلى ليبيا والتي رأى فيها الملاحظون محاولة سوريا للضغط على القذافي لإنهاء ارتباطه بالمغرب، وبالتالي إفشال الاتحاد العربي الإفريقي، وهو الفخ الذي وقع فيه الزعيم الليبي (الوحدوي) بدون أن يسعى إلى معرفة الظروف التي جرى فيها لقاء إيفران ويتأكد من نوايا حليفه في الاتحاد.
ماذا تضمن البيان المشترك الليبي السوري؟
لقد تلا الحسن الثاني بنفسه فقرات من هذا البيان يوم شرح للشعب المغربي بواسطة الإذاعة والتلفزة قراره بإلغاء الاتحاد يوم 29 غشت 1986، أي بعد يومين من صدور البيان المشترك الليبي السوري.
جاء في هذا البيان أن «زيارة شيمون بيريز للمغرب تشكل عملا خيانيا وانحرافا عن الالتزام القومي وخروجا عن الإجماع العربي وتحديا لمشاعر الأمة العربية وتفريطا في حقوقها القومية»، كما وصف البيان الزيارة بأنها «محاولة لترويض الواقع العربي لقبول الاستسلام وتصفية وقفل ملف الصراع العربي الصهيوني، ولهذا قرر البلدان إدانة هذا العمل الخياني والتصدي لنتائجه وآثاره».
رأى الحسن الثاني في هذا الموقف انتهاكا لحرمات المغرب وقال في خطابه للشعب المغربي بتاريخ 29 غشت: «لا يمكن للمغرب أن يصبر أو يتهاون عندما يخرج الانتقاد عن الحد الأدنى للصواب وحسن المعاملة، وحين يصل الانتقاد إلى رمي بلدي بالخيانة الكبرى».
وفي رسالة موجهة إلى العقيد معمر القذافي بتاريخ 28 غشت 1986، قال ملك المغرب: «إن العبارات الواردة في البلاغ السوري الليبي الذي نشر الأربعاء 27 غشت 1986 عقب زيارة الرئيس حافظ الأسد لليبيا، لا تسمح لبلدنا أن يواصل السير في طريق الاتحاد الذي يجمع بين دولتينا» وعبر في الوقت ذاته عما أسماه «شعور المرارة للنتيجة التي انتهى إليها البلدان».
ولاحظ الملك الحسن الثاني أن الأمور وصلت إلى حد لا يحتمل، وأن تصريحات القذافي جعلت الوصول إلى هذه النتيجة أمرا لا مفر منه، وأكد أيضا أن القذافي بتصريحاته لعدة صحف «أراد بها أن يرجع بنا إلى الوراء الأسود للدول العربية حين كانت بعض الدول تريد السيطرة على الأخرى».
ومع مرور الوقت، رفع الملك الراحل جزءا من الستار الذي كان يلف العلاقات المغربية السورية، وخاصة العلاقات بينه وبين الرئيس حافظ الأسد غداة لقاء إيفران مع رئيس الحكومة الإسرائيلية.
فقد أرجع سبب ذلك إلى موقف المغرب من منظمة التحرير الفلسطينية وتشبثه الدائم باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، كما قرر ذلك مؤتمر القمة العربي المنعقد بالرباط، ذلك أن علاقات سوريا مع منظمة التحرير لم تكن على ما يرام في كثير من المراحل، بل إنها وصلت في وقت من الأوقات إلى حد القطيعة الكاملة ورفض القيادة السورية استقبال الرئيس ياسر عرفات في سوريا لمدة طويلة.
قال الحسن الثاني: «ما هو سبب الخصومة بيني وبينه (حافظ الأسد) يا ترى؟ إنه تشبثي بشرعية منظمة التحرير الفلسطينية، وخلافا لما قيل ويقال، فليس لقائي مع شيمون بيريز هو الذي جعل سوريا تتخذ الموقف الذي اتخذته، فمنذ سنوات والمغرب يقول سوريا لها مشاكل مع منظمة التحرير الفلسطينية ومع فصائلها، ولكن المغرب لا يعرف إلا منظمة التحرير».
كانت القطيعة مرة والتلاقي مرة أخرى ـ ومازالت ـ شيمة بارزة في العلاقات العربية العربية، ومن حسن الحظ، فإن السياسة لا تثبت على قاعدة جامدة، ومن هنا نلاحظ أن العلاقات المغربية السورية والمغربية الليبية قد خرجت من منطقة الاضطراب وعادت إلى سالف عهدها، واستؤنفت الاتصالات المباشرة بين الحسن الثاني والرئيس حافظ الأسد والعقيد معمر القذافي.
فقد قام ملك المغرب الراحل في شهر غشت من عام 1991 بزيارة ليبيا لحضور الاحتفال بتدشين النهر الصناعي العظيم وأصبح القذافي في نظره «أخا وصديقا ومواطنا عربيا وطنيا غيورا حاملا لراية الشهامة العربية»، كما قام عام 1992 بزيارة دمشق في نطاق جولة زار خلالها أيضا المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة والأردن وجمهورية مصر العربية، وخلال زيارة سوريا، وقف يترحم على أرواح الشهداء من جنود وضباط القوات المسلحة الملكية، الذين استشهدوا في حرب أكتوبر وهم يدافعون عن الجولان، والذين يرقدون الآن في الأرض السورية العربية التي ضحوا بأرواحهم في سبيلها. ولم يكن الحسن الثاني ليتردد في التعبير عن تقديره لدور سوريا التاريخي في بناء الحضارة العربية الإسلامية وإعلاء كلمة العرب.
لقد رحل عن هذه الدنيا كل من الرئيس حافظ الأسد والملك الحسن الثاني، تاركين الحكم عليها للتاريخ، بينما يتابع العقيد القذافي الجري وراء الحلم الوحدوي العربي، مرة، والإفريقي مرة أخرى، حلم يفلت من بين يديه كلما اقترب منه.
لقد انطلقت في تحرير هذا الفصل من زيارة قائد ثورة الفاتح العقيد معمر القذافي للمملكة المغربية عام 1983، مع استعراض التطورات التي عاشتها العلاقات المغربية الليبية، صعودا وانخفاضا، في فترات زمنية محددة.
وأود أن أنهي هذا الفصل ـ بعيدا عن السياسة ـ بالحديث عن ظاهرة لاحظها العقيد القذافي بإعجاب خلال إقامته بقصر الضيافة وتبناها بعد ذلك في بلاده وفي حياته اليومية.
يعرف المغاربة وحتى غير المغاربة ـ بصفة عامة ـ ولع الحسن الثاني بالخيمة العربية، بصفتها تراثا مغربيا أصيلا، فهي حاضرة في كل مناطق المغرب، بل هي جزء من حياة الناس في السهول والجبال متعددة الأنواع والأشكال والأغراض والألوان.
وقد تبنى العاهل الراحل الخيمة للاستعمال في كثير من مجالات الحياة وأضفى عليها ـ كعادته ـ لمسات الحياة الحديثة، وهكذا استعملت هذه الخيام في عهد الحسن الثاني مجالا للتجمعات الشعبية والمؤتمرات ولاستقبال الضيوف وإقامة المآدب الفاخرة، بعد أن تجهز بالثريات والفراش الفاخر والأرائك الوتيرة، وخاصة عندما تكون المناسبة اجتماع قادة الدول العربية أو الإسلامية أو الإفريقية في نطاق مؤتمرات القمم العديدة التي احتضنها المغرب.
كانت هذه الخيام، التي تتحول إلى صالونات رائعة، تسر الناظرين، شأنها في ذلك شأن القاعات الجميلة التي تحتضن هذه المؤتمرات، وأغلبها داخل القصور الملكية ـ والتي كانت بدورها مثار الإعجاب لروعة جمالها وهندستها وغنى المواد المستعملة في بنائها، ولم يعد خفيا أن عددا من قادة الدول العربية، وخاصة دول الخليج، وحتى بعض القادة الأفارقة استقدموا لبلدانهم صناعا مغاربة ممتازين في فنون الزليج والخشب والجبس، شيدوا هناك مباني رائعة تقف اليوم شاهدا على جمالية الفن المغربي الأندلسي وبراعة الصانع المغربي، سليل من شيدوا قصور غرناطة وإشبيلية وقرطبة ومراكش وفاس.
جئت بهذه المقدمة لأقول بأن الحسن الثاني أمر بنصب خيمة مغربية في حديقة قصر الضيافة، لتكون تحت تصرف العقيد معمر القذافي، وقد لقيت هذه البادرة قبولا حسنا من طرف الضيف الليبي، الذي أعجب بالخيمة إلى حد أنها أهديت له في ختام الزيارة. ولعل هذه كانت بداية الرعاية الفائقة التي يوليها الزعيم الليبي للخيمة العربية، التي أصبح يعيش في رحابها في حله وترحاله، كما تظهره المشاهد التلفزيونية، والتي كثيرا ما أثارت له مشاكل خاصة في الدول الغربية لدى زيارته لها.
لقد كان للخيمة، على مر الأحقاب، دور مهم في حياة العرب، ففي ظلها تتجمع الصفوف وتتوحد الكلمة، وتنمحي العصبيات القبلية، فأين نحن من أولئك الذين سبقونا ومن الذي سيأتي «بخيمة» تجمع كلمة العرب من جديد وينعمون فيها بدفء الأخوة والتضامن والوئام؟!.