عتبـة

بقلم: الباحث ابراهيم الحيسن

عتبـة:
من السفر نتعلم..
ومع السفر تنمو التجربة الفردية والمشتركة للإنسان.. وبالسفر، نستطيع فتح الحوار مع الأمكنة والفضاءات..

السفر إلى المدن، أو بالأحرى السفر في جسد المدن "الصغيرة"، عبور ذاتي وتصوير وجداني يُمليه الاحتكاك مع البشر.. ومع الأمكنة التي نتردد عليها باستمرار.. نقرأها بإمعان وتفحّص، ونستقرئ عناوينها لسبر مكنوناتها والنفاذ إلى أسرارها ومعانيها..

"كنت في طرفاية".. إمضاءات وتواقيع ومحكيات أدبية تنتمي إلى سِيَر المدن.. ترسم ولادة المكان ونشوءه، وترصد حياة الناس وتفاصيل عيشهم اليومي.. وبقدر ما هي تواقيع، هي كذلك سفر في ذاكرة المكان التاريخية والجغرافية والثقافية تماما كما فعل من قبل رحالة ومحدثون وأدباء وتجار وزوار غربيون الذين عاشت طرفاية مع كتاباتهم ورسائلهم وتقاريرهم، مع اختلاف جوهري في الهوية والانتماء والمعالجة الأدبية..

فطرفاية، التي شكلت طويلا محط أنظار وأطماع الأجانب المستعمِرين، هي واحدة من مدائن الحلم التي تختزل تاريخ الإنسان الصحراوي.. تاريخ مغلف بالألم والحزن والسوداوية..

الحزن هو علامة هذه المدينة..

طرفاية- إضافة إلى ذلك- جسد موسوم بالانكسارات والجروح.. جروح التاريخ، وبلدة معزولة لها روائح واختمارات.. شمائل وثآليل.. ندخلها متحسسين لنجدها مثل امرأة حزينة منهمكة في إعادة تركيب هويتها التي خدشها الزمن..

هي ذي طرفاية، ذاكرة مكانية مثقلة بركام التاريخ وبرائحة الأجانب.. ومدينة محگورة تختبئ داخل تاريخها العريق..

طرفاية هنا.. وطرفاية هناك..
في الذاكرة والقلب..
وقبل هذا وذاك، في وجداننا الشعبي المشترك..

-1-
طرفاية..أو سُمو الأصالة

تشير توبونيميا (1) طرفاية، أو رأس خوبي-Cap Juby كما هي معروفة تاريخيا، إلى مجموعة من التفسيرات والتأويلات المرتبطة بتسميتها. في هذا السياق، يتفق كثيرون على أن طرفاية تستمد اسمها من نبات الطَّرْفَة، وعلى الخصوص النوع المسمى Tamarix، التي توجد بها بكثرة حيث تنمو بشكل سريع، بجوار الماء المالح والأماكن ذات الملوحة العالية كالسبخات(2) على وجه التحديد.. وهي- الطَّرْفَة- نبات أخضر اللون سرعان ما يتحول ليصير بنيا..

للطَّرْفَة عروق كثيرة ضاربة نحو كل الاتجاهات وتتغذى منها الإبل، لكن فقط الأجزاء الطرية منها.. خشبها وحطبها ضعيف وذو رائحة غير محمودة مقارنة مع نباتات صحراوية أخرى كالطلح والجذاري ولعْصَل والجّل ولعْرَاظْ والصدرة البيظة واليَسْريف والحلاّب.. وغير ذلك كثير..

فمن حيث البنية الإسمية، لا أستبعد أن تكون لكلمة طرفاية علاقة بمفاهيم إنسانية مثلا: الكرم والجود وكثرة الرزق، حيث جاء في المثل: "وجاء من المال بطارفة عين" (أو بعائر عين)، أي جاء بمال كثير..

وطرفاية سُميت بذلك لكرمها وطرفتها. يقال أطرفت الأرض، أي كثرت طريفتها فهي مطروفة. وأيضا لموقعها الاستثنائي وانفتاحها الرومانسي على البحر والشمس. جاء في اللسان(3): تطرّفت الشمس، أي دنت للغروب. قال: دنا وقرن الشمس قد تطرّفا. والطَرفُ: إصابتك عينا بثوب أو غيره. يقال: طُرفَت عينه وأصابتها طُرفة وطَرَفَها الحزن والبكاء. وقال الأصمعي: طرفت عينه فهي تُطرف طَرفا إذا حُركت جفونها بالنظر. ويقال: هو بمكان لا تراه الطوارف، يعني العيون. وطرف كل شيء منتهاه.

فطرفاية تشرف لكل من أشرف لها ولا تغض طرفها، فهي مطروفة.. هي كالمرأة المطروفة، منكسرة العين كأنها تطرفت عن كل شيء تنظر إليه.. هكذا أريدَ لها أن تكون..

يقول عمر بن أبي ربيعة4)

أشارت بطرف العين خِيفة أهلـها ***** إشـارة مخـزون ولـم تـتـكـلـم
فأيقنت أن الطرف قد قال: مرحبا ***** وأهلا وسهلا بالحبـيب المتيّم

رغم ذلك فإن عيون طرفاية لا تذرف دموعها (حتى التماسيحية منها)، ربما بسبب قوة صبرها.. وعنفوانها ورغبة أهلها في الحفاظ على سمو أصالتها..